إذ حرم إخوة يوسف أنفسهم من يوسف ببيعهم إياه فقدت كنعان كلها البركة ودخلت في مجاعة بينما تباركت مصر بيوسف وصارت مصدر شبع للجائعين. والآن إذ شعر هؤلاء الإخوة بالجوع اضطروا للرحيل إلى مصر ليشتروا لأنفسهم قمحًا، وكأنهم يمثلون جماعة اليهود التي خانت السيد المسيح وباعته بقليل من الفضة، في آخر الأيام إذ تشعر بالجوع الحقيقي تترك كنعان وتنطلق إلى مصر، إي إلى كنيسة الأمم تبحث عمن فقدته: الإيمان بالسيد المسيح. لكنها لا تستطيع أن تلتقي به مادامت متعصبة لصهيونيتها مرتبطة بمطامع زمنية.
"فلما رأى يعقوب أنه يوجد قمح في مصر، قال يعقوب لبنيه: لماذا تنظرون بعضكم إلى بعض. وقال: إني سمعت أنه يوجد قمح في مصر، أنزلوا إلى هناك واشتروا لنا من هناك لنحيا" [١-٢].
سمع يعقوب عن وجود قمح في مصر، ربما من التجار الذي يتبادلون السلع مع مصر، أو من الشعوب المحيطة به التي اضطرت أن تنزل إلى مصر لتشتري قمحًا من هناك، لذا بدأ يحثهم على النزول لشراء قمح. ويلاحظ في النص الذي بين أيدينا الآتي:
أ. يكرر كلمة "يعقوب" أكثر من مرة، ولم يقل "إسرائيل" مع أنه كان قد أخذ الوعد أنه لا يدعى بعد "يعقوب" بل "إسرائيل". لكن يعقوب هنا لا يمثل شبع الله بل "اليهود" الذين فقدوا الإيمان بالسيد المسيح أي يوسف الحقيقي... إنهم لا يُحسبون إسرائيل الروحي ولا شعب الله بسبب جحودهم.
ب. الآن يلجأ يعقوب خلال أولاده إلى أرض مصر لكي يحيوا ولا يموتوا، فقد خسر اليهود سرّ حياتهم - يوسف الحقيقي - بينما قبل الأمم - مصر - مصدر الحياة الحقة.
ج. يقول لهم يعقوب: "انزلوا إلى هناك"، فقد أتسم اليهود بالكبرياء الذي دفعهم للجحود، لذا تأتي الدعوة لكل نفس متكبرة أن تنزل عن كبريائها لتذهب إلى هناك. أي إلى كنيسة السيد المسيح المتسمة بروح عريسها المتواضع.
د. يقول يعقوب لهم: "لماذا تنظرون بعضكم إلى بعض؟!"... كان يليق بهم أن ينظروا إلى موضع الشبع، إلى حيث يوسف موجود، عوض أن ينظروا إلى بعضهم البعض. وكأن كلمات يعقوب هذه تمثل دعوة للنفس أن تنطلق من انغلاقها وتقوقعها حول ذاتها إلى الانفتاح على السيد المسيح. القلب المغلق يعيش جائعًا، أما المنفتح لله والناس فيشبع بالله مصدر كل شبع.
ه. كان عدد النازلين إلى مصر عشرة من إخوة يوسف [٣]، ولم يكن بينهم بنيامين إذ خشى يعقوب لئلا يُصاب بسوء كما حدث لأخيه يوسف. هذه الانطلاقة الأولى للعشرة إنما تشير إلى الانطلاق للسيد المسيح خلال إدراكنا الروحي للناموس (١٠ وصايا الناموس)، لكنه لن نلتقي بيوسف على مستوى الحب إلاَّ ببنيامين (ابن اليمين)، إي بارتباطنا بالإنجيل الذي يهبنا حق التمتع بيمين الله.
إذ كانت كنعان في رخاء لم يفكر يعقوب وبنوه في للقاء بيوسف، وربما نسى أبناء يعقوب يوسف وظنوا أنهم لن يروه بعد، لكن الله في محبته سمح بالجوع في كنعان حتى يلتقي الكل بيوسف. الله لا يشتاق إلى مذلتنا ولا يطلب لنا الجوع، لكننا إذ نفقد يوسفنا الداخلي تصير أعماقنا جافة وفي قحط، فيسمح الله بالجوع يحل بالأرض لا لشيء إلاَّ لنكتشف الجوع الداخلي ونطلب يوسفنا يشبع الداخل كما الخارج.
ويقول الكتاب: "كان يوسف هو المسلط على الأرض، وهو البائع لكل شعب الأرض، فأتى إخوة يوسف وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض" [٦].
St-Takla.org Image: Joseph, Overseer of Pharaoh's Granaries, by Lawrence Alma Tadema, 1874 |
كان يوسف هو المتسلط على مصر يدبر أمورها المالية، وقد قام ببيع القمح بنفسه في مخازنها في الحدود الشرقية، ربما لكي يطمئن إلى الغرباء القادمين لشراء القمح لئلا يعبثوا بالبلاد، أو ربما لأن حنينه كان ملتهبًا نحو أبيه وأخوته، فكان ينتظر مجيئهم ليشتروا القمح فيتعرف عليهم. وبالفعل إذ جاء إخوته عرفهم فتنكر لهم وتكلم معهم بجفاء أي تحدث معهم كغريب عنهم. وقد حملت تصرفات يوسف في هذا اللقاء معانٍ كثيرة، نذكر منها:
أ. إذ يمثل يوسف السيد المسيح، عرف إخوته وتنكر لهم أما هو فلم يعرفوه... جاء السيد المسيح الذي يعرفنا بأسمائنا، لكنه إذ حمل طبيعتنا وصار في الهيئة كإنسان لم يستطع إخوته اليهود أن يعرفوه، وكما يقول الرسول: "ولو عرفوا رب المجد لما صلبوه".
ب. تحدث معهم بجفاء بل واتهمهم كجواسيس لا لينتقم منهم، إذ كانت أحشاؤه ملتهبة فيه... وعندما سمعهم يتحدثون في مرارة متذكرين ما فعلوه به وهم لا يدرون أنه يوسف: "تحول عنهم وبكى" [٢٤]. إنما كان قصده بهذا الجفاء ألاَّ يعرفوه سريعًا حتى لا يخافوا منه، ومن ناحية أخرى أراد أن يستفسر عن أبيه وأخيه بنيامين بطريقة غير مباشرة، كما كان يخطط لإحضار الجميع ليعيشوا معه في خيراته. وقد نجح يوسف في تحقيق كل هذه المقاصد حتى وإن تظاهر في البداية بمظهر الجفاء.
الله في حبه لنا يبدو أحيانًا جافيًا لا ليحرمنا من حنوه وإنما ليحقق فينا غايته، ويدخل بنا إلى أسراره والتمتع بنعمه بطريقته الإلهية الفائقة لإدراكنا.
ج. تذكر يوسف الأحلام التي حلم عنهم [٩]... فقد يطول بنا الوقت ونظن استحالة تحقيق وعود الله، لكنه يهبنا تحقيق وعوده في الوقت المعين وبطريقة فائقة لم نكن نتوقعها.
د. أمر بحبسهم ثلاثة أيام... وكأنه أراد أن يؤدبهم ولكن في حنو لعلهم يذكرون خطيتهم من نحو دمه البريء؛ وفي اليوم الثالث تحدث معهم برفق: "افعلوا هذا واحيوا. أنا خائف الله. إن كنتم أمناء فليحبس أخ واحد منكم في بيت حبسكم وانطلقوا أنتم وخذوا قمحًا لمجاعة بيوتكم، واحضروا أخاكم الصغير إليّ فيتحقق كلامكم ولا تموتون" [١٨-٢٠]. لقد أراد أن يطمئنهم أنه لا يستبد بهم فهو خائف الله، لكنه يطلب التحقق من صدق أقوالهم بإحضار الابن الأصغر إذ كان قلبه ملتهبًا نحو رؤيته، وعلامة حنوه أنه وهبهم أن يأخذوا قمحًا لبيوتهم، قائلًا: "لا تموتون"... هذا وقد وضع فضتهم في عدالهم (جوالقهم)، إذ لا يطلب منهم ثمنًا للطعام الذي يقدمه.
لقد سبق فسُجن يوسف، والآن يحبس أخوته ثلاثة أيام ليخرجوا فيجدوا يوسف يهبهم القمح لهم لعائلاتهم، سائلًا إياهم أن يكونوا أمناء فيحضروا أخاهم الأصغر. إنه حديث السيد المسيح الذي دُفن في القبر كما في سجن وقد وهبنا أن ندفن معه ثلاثة أيام لننعم بقوة قيامته عندئذ نتقبله خبزًا سماويًا يشبعنا نحن وكل عائلاتنا أي يشبع النفس مع الجسد والعقل وكل مالنا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا فيموقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). أما سؤاله عن الابن الأصغر إنما هي دعوة للعمل، فلن يستريح قلب السيد المسيح من جهة الكنيسة ما لم تأتِ إليه بالأصغر، أي تبحث عن كل نفس ليقتنيها لحسابه... يبقى السيد المسيح يطلب من كنيسته أن تعمل لتأتي إليه ببنيامين، أي تقدم الكل كابن عن يمين الله. بهذا الروح يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن الله يرضى بهذا العمل كثيرًا، حتى أنه لو صنع الإنسان كل التقشفات ولو قمع جسده بكل نسك، ولو صام حياته كلها ونام على الحضيض، ولو وزع كل مقتنياته على الفقراء والمساكين، فهذه كلها لا توازي غيرة خلاص النفس]. ه. كانت كلمات يوسف لهم: "افعلوا هذا واحيوا... لا تموتوا" [١٨، ٢٠]. هذه هي دعوة السيد المسيح القائم من الأموات، يريدنا أن ندفن معه لننعم بالحياة المقامة فلا نموت، وكما يقول الرسول بولس: "فَدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضًا في جدة الحياة، لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضًا بقيامته" (رو ٦: ٤، ٥).
و. لماذا قيد يوسف شمعون أمام عيونهم [٢٤]؟ بلا شك لم يقيده حقدًا ولا انتقامًا... وربما فك قيوده وأحسن معاملته بعد رحيل إخوته، إنما أراد أن يثير فيهم الإسراع بإحضار بنيامين حتى تُفك قيود شمعون أخيهم، وتُرد له حريته. هذا ومن جانب آخر فإن كلمة: "شمعون" معناها "سمع"، فهو يشير إلى الاستماع لصوت الله أو الطاعة له، لذا فإن تقييده إنما يكشف عن فقدان اليهود لروح الاستماع لصوت الله والطاعة له.
هذا ويرى البعض أن شمعون كان قاسيًا جدًا على يوسف وأنه هو الذي اقترح بقتله (٣٧: ١٩، ٢٠) فاستحق التأديب ليشعر بخطيته ويقدم توبة عن تصرفاته.
كان رأوبين (ابن الرؤيا) يوبخ اخوته: "ألم أكلمكم قائلًا لا تأثموا بالولد وأنتم لم تسمعوا، فهوذا دمه يُطلب" [٢٢]. إنه يمثل "ابن الرؤيا" أي البصيرة التي تنفتح لتدرك الخطأ الذي ارتكبه الإنسان وتدفعه للتوبة على ما صنع. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عندما ترون أمرًا ما يحدث لكم اذكروا خطيتكم "التي جلبت هذا عليكم" ]. ٣. العودة إلى كنعان:
عاد إخوة يوسف بدون شمعون إلى أبيهم في أرض كنعان ليخبروه بكل ما أصابهم، وكيف اُتهموا بأنهم جواسيس، وأن الرجل "سيد الأرض" قال لهم: "بهذا أعرف إنكم أمناء. دعوا أخًا واحدًا منكم عندي وخذوا لمجاعة بيوتكم وانطلقوا واحضروا أخاكم الصغير إليّ، فأعرف أنكم لستم جواسيس بل أنكم أمناء فأعطيكم أخاكم وتتجرون في الأرض" [٣٣-٣٤]... وكان تعليق يعقوب: "أعدمتموني الأولاد، يوسف مفقود وشمعون مفقود وبنيامين تأخذونه، صار كل هذا عليّ" [٣٦]. وكان أن رأوبين قال لأبيه: "أقتل أبني إن لم أجئ به إليك، سلمه بيدي وأنا أرده لك" [٣٧].
عاد بنو يعقوب بلا شمعون فظهرت أعماقهم التي كانت مختفية، ظهروا أنهم كانوا في قلبهم لا يحملون "الاستماع لله"... فصار الظاهر وهو يمثل مرارة للجميع يكشف عن الموقف الداخلي الذي تجاهلوه زمانًا طويلًا.
دعوة يوسف "سيد الأرض" دون أن يعرفوه فشهدوا له من ورائه أن فيه تحققت الأحلام التي كانوا لا يطيقون تذكرها... هذا السيد ليس مستبدًا إنما يطلب أمانتهم برد بنيامين أخيه إليه.
رفض يعقوب تسليم ابنه بنيامين لئلا تصيبه أذية في الطريق كأخيه يوسف، عندئذ كما يقول: "تنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية" [٣٨]... هذه هي مشاعر الأبوة الصادقة، فإن سقوط أي ابن لنا مهما كان صغيرًا ينزل شيبتنا بحزن كما إلى الهاوية. هذه الشاعر التي ترجمها الرسول بولس بقوله: "من يضعف وأنا لا أضعف، من يسقط وأنا لا التهب؟!" وقد تحدث القديس يوحنا الذهبي الفم كثيرًا عن هذه الأبوة الحانية نحو كل نفس في المسيح يسوع. لكن يعقوب يقول: "تنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية"، إذ لم يكن بعد باب الفردوس قد انفتح... فكان الموت بالنسبة له انحدارًا!!