انحدرتُ ذات مساء إلى مَنسك الشيخ باييسيوس. وفي تلك الفترة كان قد تغلغل إلى نفسي فكرُ كبرياء، أتى من الصلاة القليلة التي كنت أحاول القيام بها. وإذ كان ذهني متجمعاً بعض الشيء ابتدأت في رؤية الأمور على نحو أكثر نقاءً من ذي قبل، ولكن لم يكن عندي فكرٌ متواضع، وقد تَشَامخ فكري، فقلتُ في نفسي إني "شيء عظيم".
قمتُ بزيارة الشيخ وتلك الأفكار المتكبِّرة تُراودني، ولكني لم أُطلِع الشيخ على أفكاري تلك. كانت تلك الأفكار بجملتها مَرويَّةً بالكبرياء.
ومن دون أن يوجِّه الشيخ لي أيَّة كلمة بهذا الصدد شَرَعَ يقول:
لقد تذكَّرتُ أنا حَدَثاً معيَّناً سأُطلعك عليه:
في إحدى الليالي، عندما كنتُ في كاتوناكيا (بآثوس)، وبينما كنت ساهراً في قلايتي أُصلي، حوالي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل ابتدأتُ أشعُرُ بفرح سماوي، وفي الوقت ذاته ابتدأت أرى قلايتي المُظلِمة، والتي كان يَكسُرُ نور المصباح ظُلمتها، تمتلئُ شيئاً فشيئاً من نورٍ فائقِ الجمال لونه أبيض سماوي.
في البداية كان النور قوياً جداً، وفهمتُ فيما بعد أنَّ عينيَّ "قد مُنِحتا قوةً" بحيث تستطيعان احتمال هذا النور. لقد كان هذا النور نوراً غير مخلوق. بَقيتُ هناك في النور ساعاتٍ طوال فاقداً الإحساس بالأمور الأرضية، وعِشتُ في عالمٍ روحيٍّ آخر مختلف تماماً عن هذا العالم الجسدي. وإذ كنتُ في تلك الحالة، في ذاك النور الإلهي غير المخلوق، تقبَّلتُ خبراتٍ سماويِّة متنوِّعة. ومَضَت الساعات من دون أن أشعُرَ بمرورها.
ثم في وقت ما ابتدأ النورُ غيرُ المخلوق يختفي شيئاً فشيئاً، وأنا أخذتُ أعود إلى حالتي السابقة. أحسستُ بالجوع والعطش فأكلتُ بعض الطعام وشربتُ قليلاً من الماء. تعبتُ فجلستُ قليلاً لأستريح، وشعرتُ بأني مثل البهائم، فطلبتُ رحمة الله لنفسي.
حصل لي هذا التواضع الطبيعي من جراء تلك الحالة.
لقد عدتُ من حالة روحية إلى حالة أُخرى، وإذ رأيتُ الفرق بين الحالتين لم يبقَ لي إلاَّ أن الومَ نفسي وأوبِّخها.
وقد كان يُقيمُ بالقرب من قلايتي أخ آخر. وفي الخارج كان يَلوحُ لي أنَّ الوقت لا يزال ليلاً وأنَّ هناك بَدرٌ في السماء، فخرجتُ وسألتُ الأخ في القلاية المجاورة:
"هيه، يا أخ ماذا يجري؟ هل تأخر النهار عن الطلوع؟ ما الساعة الآن؟
فسألني الأخ قائلاً: يا أبانا باييسيوس ماذا تقول؟ لم أفهم!
حينئذ فقط فهمتُ ما قد جرى.
كانت الساعة حوالي العاشرة صباحاً، و "القمرُ البدرُ" الذي رأيته كان الشمس. ولكن النور غير المخلوق كان قوياً جداً، فلكي تتحمله عيناي نالتا من الله نعمةُ خاصة، بحيث أنَّ نور النهار والشمس كان يبدو لي مثل الليل.
هذا ما أخبرني به الشيخ باييسيوس وقال لي بعد ذلك أن أذهب حينها إلى قلايتي إذ قد وافاه بعض الزوار.
فمشيتُ في طريقي وقد أحسَستُ بحالتي البهيميَّة.
المرجع: الشيخ باييسيوس الآثوسي عجائب وأقوال. ترجمة جوزيف بدور، مكتبة البشارة بانياس.