Archive for مايو 2018
نرتل ونحلق مع السيرافيم حول العرش _ القديس يوحنا ذهبي الفم
"والسَّرَافِيم وَاقِفُونَ حَوْلَهَ" (إش 6: 2)
قَبْلَ الكَلاَمِ عَنْ كَرَامَةِ طَبِيْعِتِهِم فِإِنَّه يُعَلِمُنَا مِنْ خِلاِلِ اِقْتِرَابِهِم نَحْوَ عَرْشِ اللهِ، لأنَّه لّمْ يَقُلْ أَوَّلاً مِنْ هُمْ السَّرَافِيمُ بَلْ يَذْكُرُ المَكَانَ الذِي يَقِفُونَ فِيهُ، لأنَّ هّذْهِ المَكَانِةَ أَعْظَمُ مِنْ تِلْكَ. كِيْفَ؟ لأنَّ كَيْنُوْنَتَهم سَّرَافِيمَ لا تُوَّضِحُ أنَّهُم قُوَاتٌ عَظِيْمَةٌ كَمِثْلِ كَوْنِهِم يَقِفُوْنَ بِجِوَارِ العَرْشِ المِلُوْكِي.
وبِالِمِثْلِ فَنَحْنُ أَيِضًا، نَعْتَقِدُ أنَّ هَؤْلاءَ الحُرَاسَ مُبَجَلُونَ، نَرَاهُم يَمُرُونَ وَهُمْ مُمْتَطُونَ الخَيْلَ فِي مَوِكِبٍ مُؤَلَفٍ مِنْ زِوْجَيِّن بِالقُرْبِ مَنِ المَرْكِبِةِ المُلُوْكِيِةِ، هَكَذَا بالنِسْبَةِ للقُوَاتِ غَيْرِ الجسدِيْةِ فَإِنَّ أُوَلَئَكَ أَكْثَرُ جَلاَلاً، كَلَّمَا اِقْتَربُوا مِنَ العرْشِ. لِذَلِكَ فَإِنَّ النِبِي قَدْ تِخَطَى الحَدَيْثَ عَنْ طَبِيْعَتِهم الخَاصَةِ وحَدَّثَنَا أّوَّلاً عَنْ مَكَانِهِم العظَيِمِ، مُقرًا بِأنَّ هَذَا يُمَثِلُ أَعْظَمَ زِيْنَةً لًهُم لأنَّهَا تُشَّكِلُ بِهِاءَهَم، ولأنٍّ هَذَا يَعْنِي لَهُم المَجَدَ والكَرَامَةَ وكُلَّ أمَانٍ أنْ يَظْهَرُوا حَوْلَ ذَاَكَ العَرْشِ.
وهَذَا مَا يُمْكِنُ أنْ نَرَاَهُ مَعَ المَلاَئِكَةِ، لأنَّ أُوْلَئِكَ حَيِنَ أَرَاَدَ المَسِيْحُ أنْ يُظْهِرَهَم بِأنَّهم عُظَماءٌ، لَمْ يَقُلْ عَنْهُم فَقَطْ أَنَّهَم مَلاَئِكَةٌ وصَمَتَ، بَلْ قَالَ عَنْهُم "إِن مَلاَئِكَتَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ."، لأنَّ كِوْنِهِم يَنْظُرُونَ وَجْهَ الآبِ لَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ كَوْنِهم مَلاِئِكَةً، وهَكَذَا الحَالُ مَعَ السَّرَافِيْمِ فَالوُقُوْفُ بِجِوَارِ العَرْشِ وأنْ يَكُنْ هَذَا العَرْشُ فَيْ وَسِطِهم أَعْظِمَ مِنْ كَوُنِهِم سَّرَافِيمَ.
ولَكِنَّ العَظَمَةَ هَي لَكَ مُمْكِنَةٌ، إنْ أَرَدَتَ أنْ تَنَالَها، لأنَّ اللهَ لَيْسَ فِيْ وَسَطِ السَّرَافِيمِ، بِلِ فِيِنَا نَحْنُ أَنْفَسِنَا، إنْ أَرَدْنا. إذْ يِقُوْلُ: "لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ"، وأيضًا: "قَرِيب هُوَ الرَّبُّ مِنَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، وَيُخَلِّصُ الْمُنْسَحِقِي الرُّوحِ." لَذَلِكَ فَبُوْلُسُ يَصْرُخُ: " فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ."، أَتَرَىَ كَيْفَ أَقَمَنَا مَعَ السَّرَافِيمِ، مُقَرِبًا إِيَانِا مِنَ العَرْشِ المُلُوُكِي؟
وبِعِدَ ذَلَكَ يَقَوُلُ: " لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ" فَعَلَى أَيِ شَئٍ تَدُلُ تَلَكَ الأَجْنِحَةُ السِتَةُ؟ إِنَّها تَدُلُ عَلَى أَنَّ تَلَكَ الطَبَائَعَ سَامِيَةٌ وطَائِرَةٌ وخَفَيْفَةُ، وسَرَيِعَةٌ. لأِجْلِ ذَلَكَ فَإِنَّ جَبْرَاَئِيْلَ يَنَزِلُ كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أجْنِحَةٌ، لَيَسَ لأَنَهُ يُوْجَدُ أَجْنِحَةٌ لَتْلكَ القُوَةِ غَيْرِ المُتَجَسِدَةِ، بِلْ دَلاَلَةٌ عَلى أَنَّه نَزَلَ مَنْ تِلْكَ الأَمَاكِنِ العُلْوِيِةِ جِدًا، وَوَصَلَ إلَى الأَرْضِ تَارِكًا إِقَامَتَهُ فِيِ السَمَاءِ. ولَكَنَّ مَا هَيَ غَايَتُهُ فِي أنْ يُوَضِحَ لَنَا عَدَدَ الأَجْنِحَةِ؟ وهَذَا لا يَحْتَاَجُ تَفَسَيْرِي الخَاصَ، لأنَّ الحَدَيِثَ يُفَسَّرُ نَفْسِهِ شَارِحًا لَنَا فَائِدَتَها، لأنَّهُ يَقُوْلُ: "بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ" كَأنَّهُما سِتَارَتانَ يُغَطَيَانَ وَجْهَهُ، لأنَّهَم لا يَتَحَمَلُون اللَمَعَانَ المُنْبَعِثَ مَنْ ذَلِكَ المَجْدِ. "وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ"، تَحْتَ تَأثِيْرِ نَفْسِ الاَنْبِهَارِ، لأنَّنا أَنْفُسَنا عَادَةً عَنْدَمَا يُسَلَطُ عَلَيْنَا جِسْمٌ بَاهِرٌ، فِإنَّنا نَنْكَمِشُ ونُخْفِي كُلَّ مَكَانٍ فِي جَسَدِنْا. ولِمِاذَا أَتَحَدَثُ فَقَطْ عَنِ الجَسَدِ، طَالَمَا أنَّ النَفْسَ ذَاتَهَا عِنْدَما يَحْدُثُ لَهَا ذَلَكَ الأَمْرُ فِي تَجَلِيَاتِها السَامِيَةِ، تَجِذِبُ كَلَّ طَاقَاتِهِا ثُمَ تَجْمَعُ ذَاتَهَا ضَاغِطَةً إِيِاهَا بِعُمْقٍ فِيِ الجَسَدِ كِمَا لَوَ كَانَ هَذَا الجَسَدُ مَلْبَسًا لِها؟ وحِيْنَ يَسْمِعُ أَحدٌ الاِندِهَاشَ والاِنبِهَارَ لاَ يظُنُ أنَّنا نَتَحَدَثُ عَنْ صِرِاعٍ مُقَّزِزٍ للنَفْسِ لأنَّهُ مَعَ هَذَا الاِنْدِهاشِ تُوْجَدُ نَشْوَةٌ مُمْتَزِجَةٌ بٍهُ لا تُحْتَمَلُ مَنْ عَظَمَتِهَا. "وَبَاثْنَيْن يَطِيرُون" وهَذَا يَدُلُ عَلَى أَنَّهم دَائِمَا يَشْتَهُوْنَ العُلْوِيَاتِ ولا يَنْظُرِوُنَ لأَسْفَلَ أَبدًا، "وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ»"، وهَذَا الصُرَاخَ فَي الحَقَيِقَةِ هَوَ دَلاَلَةٌ وَاضَحَةٌ لَنَا عَلَى تَعجُبِهم، لأنَّهم لا يُسِبِحُون فَقَطْ بَلِ يَصْرُخُونَ بَشِدَةٍ، ولا يَصْرُخُونَ فَقَطْ بَلِ أَيْضِا يَفْعَلُونَ ذَلَكَ بِلا اِنْقِطِاعٍ.
لأنَّ الأَجْسَادَ البَرّاقَةَ وإنْ كَانَتْ مُنِيْرَةً بَشَكِلٍ عَظِيْمٍ، حِيْنِئِذٍ فَإِنها عَادَةً مَا تثِيْرُ ذَهَوَلَنا لَمَّا نُشَاهِدُها للمَرَةِ الأَوْلَى بَعُيْوْنِنا، ولَكَنْ إِنِ واصلْنَا التَطَلَعَ فَيَها أَكَثَرَ فَبَالتَعّوَّدِ سِوْفَ يَنَتَهَي اِنْدَهَاَشُنَا، لأنَّ عُيْوْنَنَا قَدْ اِعِتِادِتْ عَلِى تِلْكَ الأَجِسَادِ.
لذلك فعِنْدِما نِرَى أَيْقُوْنَةً مُلُوكِيِةً، وقَدْ تَمَّ تَكَرِيْسُها (تَجْهِيزُها) حَدِيْثًا وهَي تَزْهُو بَأَلَوَانِها، فَهَي تُثِيْرُ إِعْجَابَنَا ولَكِنَّ بَعْدَ يَوْمٍ ويَوْمَينِ يَزُوْلُ إِعْجَابُنا هَذا. ولَكِنْ لِمَاذَا أَتَحَدَثُ عَنْ أَيِقُوْنَةٍ مُلُوْكِيِةٍ، طَالَمَا أنَّ الأَمْرَ ذَاتَهُ يَحْدُثُ لَنا مَعَ أَشِعَةِ الشَمْسِ، عِلى الرُغْمِ مِنْ أَنَّه لا يُوْجَدُ جِسْمٌ أَكَثَرُ لَمَعَانًا مَنَها؟ وهَكَذا فَأَيِ جَسِدِ بِسِبَبِ الاِعْتِيَادِ (عَلىِ النَظَرِ) إِلِيِهِ يُذَهَبُ الإعْجَابُ بِهِ. غّيْرَ أنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ فَيْمَا يَتَعَلقُ بَمَجْدِ اللهِ، بَلْ عَلى العَكْسِ تَمَامًا، لأنَّه كُلَمَا وَاصَلَتْ تِلِكِ القُوَاتُ (السَمَائِيَةُ) فِي النَظَرِ إلَى ذَلَكَ المَجْدِ كَلَمَا اِنْبِهِرَتْ بِالأَكثرِ واِزْدِادَ تِعَجُبُها، لَذلَكَ فَبَالرَغَمِ مِنْ أنَّهم يَرُونَ ذَاَكَ المَجْدَ مُنْذُ خِلْقَتِهم حِتَّي الآنَ، فَلاَ يَتَوَقَفَونَ عَنِ الصَرُاخِ بِاِنْبِهِارٍ، لأنَّ مّا نُعَانِي مِنْهُ ويَحْدَثُ لَنا فِي بُرْهَةٍ قًصِيْرَةٍ مَنِ الزَمَنِ، عَنْدَمَا يَأْتِي عَلَيْنَا ضِيِاءٌ سَاطِعٌ، يَحْدَثُ لَتْلَكَ القُوَاتِ القَائِمَةِ قُدَامَه بِاسْتِمْرَارٍ وبَلاَ اِنْقطِاعٍ، وبِالرَغْمِ مَنْ ذَلِكَ يَظْهَرُون لَذَةً مًا وتَعَجُبًا. لأَنَّهم لَيْسُوا فَقَطْ يَصْرُخُون، بَلْ يَفْعَلُوْنَ هَذَا فِيْمَا بَيْنَهم، وهَذْه عَلاَمَةٌ عَلَى اَنْدِهَاشِهم الدَاَئِمِ، وهَذِا نَفْسَهَ مَا يَحْدُثُ لَنا عِنْدَمَا نَسْمَعُ رَعْدًا أو زِلْزِالاً يَهْزُ الأَرْضَ، لَيْسَ فَقَطْ نَقْفِزُ ونَصْرُخُ، بَلْ نُسْرِعُ بِالهَرَبِ الوَاحَدَ إلى الأَخَرِ إلَي بَيْتَهُ، وهَذَا مَا يَفْعَلُهُ السَّرَافِيمُ، لِذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ يَصْرُخُ نَحَوَ الأَخَرِ قَائِلاً: " قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ".
هَلْ تُدْرْكُون أَيَ صَوتٍ هَذا يَا تُرَى؟
هَلْ يا تُرَى هَوَ صَوْتٌ يَخُصُنَا أمَ صَوْتُ السَّرَافِيمِ؟
صَوْتُنَا وَصَوْتُ السَّرَافِيم هُوَ لِتِسْبِيْحِ المَسِيحِ الذِي أِزِالَ الحَاجِزَ المُتَوَسَطَ وأَحَّلَ السَلامَ بَيْنَ السَمَاويَاتِ والأَرْضِيِاتِ، وتَسْبِيْحٍ لِذاِكَ الَذي جَعَلَ الاثْنَيِنَ واحَدًا.
لأنَّه فِي السِابِقِ كَانَتْ هَذِهِ التَسْبِحَةُ فَقْطْ تُرَتَلُ فَي السَمَاوَاتِ، ولَكِنْ عِنْدَما قَبِلَ السَيِدُ أنْ يَأَتِي إلَى الأَرْضِ قَدْ نَزَلَتْ هَذِه التَرْتِيْلَةُ أَيْضَا إلِيْنَا، لَذلِكَ رَئيِسُ الكَهَنَةِ العَظَيِمُ هَذَا عِنْدَما يَقْفُ عَلَى المَائِدَةِ المُقَّدَسَةِ (المَذْبَحِ) مُقَّدِمًا العِبَادَةَ العَقْلِيْةَ، والذَبِيْحَةَ غَيْرَ الدَمَوِيَةِ لا يَحُثْنَا مُبَاشَرَةً عَلَى هَذَا الهُتَافِ المُبْهِجِ، بَلِ أَوَلاً يُشِيْرُ إلَى الشَارُوْبِيْمِ ثُمَ يَذْكُرُ السَّرَافِيمَ، وبِعْدَ ذِلِكَ يَحُثُ الجَمِيِعَ أنْ يُصَّعِدوا أصْوَاتِهم الجَهُوْرِيِةِ، يَصْرِفُون أّذْهَانَنَا عَنْ كُلِّ مِا هُوِ أَرْضِيِّ بِتِذْكِارِ أَوِلَئِكَ الذِينَ يُرَتِلُون مَعًا. وكَأَنَّهم يُنَادُون عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِيْنَا، قَائِليِن مَعِ السَّرَافِيم:
رَتِلْ مَعَ السَّرَافِيم جَنَبًا إلَى جَنْبٍ ومَعَهُم اِفِتِحْ جِنِاحِيْكَ وحَلِّقْ مَعَهم حَوْلَ العَرْشِ المُلُوْكِي.
ولَكِنَّ يا لَهُ مِنْ عَجَبٍ أنْ تَقِفَ بِجِوارِ السَّرَافِيم، عِنِدما لا يَجْرُؤ السَّرَافِيم أنْ يَمُسُوا هذه (العطايا)، التي قد أَعْطَاها إياك اللهُ بِسَخَاءٍ.
"فَطَارَ إِلَيَّ وَاحِدٌ مِنَ السَّرَافِيم وَبِيَدِهِ جَمْرَةٌ قَدْ أَخَذَهَا بِمِلْقَطٍ مِنْ عَلَى الْمَذْبَحِ"
ذَاَكَ المَذْبَحُ (السَمَاوِي) هُوَ نَمُوْذَجٌ ومَثَالٌ لَهَذا المَذْبَحِ (فَي الكَنِيْسَةِ)، وتِلْكَ النَارُ هَيَ مِثَالٌ لِهَذِهِ النَارِ الرُوْحِيَةِ، غَيْرَ أنَّ السَّرَافِيمَ لَمْ يَجْرُؤوا أنْ يَمْسِكُوها بِأِيْدِيْهم بَلِ بِمُلْقَطٍ،، بِيْنما أَنِتَ تَمْسِكُها بِيِدِكَ، فِإِنْ كُنْتَ تَبْحَثْ فِي قَيْمَةِ العَطَايَا الحَاضِرَةِ فَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ جَمْرَةِ السَّرَافِيم، ولَكَنْ إنْ تَأَمَلْتَ فِي مَحِبِةِ سَيِدِّكَ للبَشَرِ ونِعْمَةِ العَطَايَا الحَاضِرَةِ فَلَنْ تَخَجَلَ مَنْ أنْ يَنْزِلَ سَيِدُّك! إلَى عَالَمِنا الفَانِي.
المرجع: كتاب رؤيا إشعيا للقديس يوحنا ذهبي الفم، ترجمة د. جورج فرج، إصدار مركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2016